لماذا لم يختر أحد حنفاء العرب السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة ؟

لماذا لم يختر أحد حنفاء العرب السابقين على محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة ؟
ان الدارس لسير هؤلاء ، يكتشف أنهم اكتفوا بالخلاص الشخصى ، وانزووا فى ركن من المجتمع يستمتعون بالعبادة الحقة ! لم يؤثر عن أحدهم أنه تصدى لمشكلات مجتمعه ، أو قام بمجهود لتصحيح مفاهيمه العقائدية ! كان لكل منهم عالمه الخاص النظرى ، لم يحاول الخروج منه ، اللهم الا فيما ندر . فلو اعتبرنا خطبة قس بن ساعدة السنوية فى سوق عكاظ محاولة للهداية ، لوجدناها ومضة عابرة لا ترقى لمستوى الدعوة ! كذا ورقة بن نوفل الذى انصرم شبابه فى مطالعة التوراة والانجيل فقط ، ومثله أمية بن أبى الصلت وعمروبن زيد بن نفيل . ربما تمنى أحدهم أو جميعهم أن يكون النبى المنتظر ، لكنه لم يمتلك أبدا مؤهلات النبوة التى توفرت للنبى محمد صلى الله عليه وسلم .
هذه المؤهلات نستخلصها من بين سطور السيرة ، وخاصة من حديث السيدة خديجة رضى الله عنها له ، عقب عودته مرتجفا من الغار ، يقول لها : انى قد خشيت على نفسى !
فنسمعها تقول له بثقة : كلا ، فان الله لا يخزيك أبدا !
ثم تتبعها بالحيثيات التى تستند عليها :
انك تصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتقرى الضيف ، وتحمل الكل ، وتعين على نوائب الدهر .
يصل الرحم فى عصر قطعت فيه الأرحام واشتعلت الحروب بين الأهل لأتفه الأسباب !
ويصدق الحديث فى بيئة كاذبة مراوغة ، هدفها الربح والمساومة والغش !
وتقرى الضيف أى تكرمه وتطعمه ، واذا قال قائل ان اكرام الضيف كان عادة سائدة ، فلم اختصته بها خديجة ؟
نقول ان اكرام الضيف كان عادة بين الأغنياء وكبار القوم ، مثل المليونير عبد الله بن جدعان ، لكن محمدا الفقير المعدم ، حين يقرى الضيف ويفتح بيته للغرباء ، فان هذا هو الكرم بعينه ، بلا رغبة فى الاستحواذ والشهرة !
وتحمل الكل ، أى الضعيف . تقصد أنك تساعده وتؤازره حتى يقوى ويشتد ساعده ، ولاحظ انها لم تقل : تساعد الكل ، بل : تحمل الكل ، وكأنه يحمله على كتفه بكل ما يعانيه ويريحه بكل ما يملك ! وتعين على نوائب الدهر وهى كل ما تقدم !
ان رجلا يجمع تلك الخصال ، لخليق بالسيادة فضلا عن النبوة .
وهكذا يكون اختيار الله سبحانه وتعالى . فمحمد هو الشخص المناسب للنبوة ، وليس فى الرسالات مجاملة ، لأنها أمانة عظمى يتوقف عليها مصير الأمة . صلى الله على محمد ، صلى الله عليه وسلم .

اعتاد كتاب السيرة قديما وحديثا ، أن يرجعوا معارضة زعماء قريش للنبى صلى الله عليه وسلم ، الى رغبته فى ابطال عبادة الأصنام ّ! وفى الأفلام الدينية البائسة نرى بعض الكفار يصرخون بغضب:
- لقد سفه أحلامنا وعاب آلهتنا ّ!
القراءة الواعية لأحداث تلك الفترة ، تظهر أن هؤلاء التجار ، عملاء الدول الكبرى لم يكن يشغلهم دين ولا عبادة أصنام ّ! فهى مجرد مظهر لاسترضاء التجار القادمين الى مكة ّ! كما يقدمون لهم الجوارى والخمر ، يصحبونهم الى الكعبة ليروا آلهتهم منصوبة زمعترفا بها ، فيذبحون لها وينحنون ، نفاقا ورياء وخداعا للبسطاء .
أى آلهة تلك التى ترضى عن قتل العبيد واختلاط الانساب والسكر والعربدة والربا ؟
أليس أمرا مضحكا أن نردد تلك المقولات الجاهزة حتى الآن ، ألم يأتكم يا سادة خبر عمر بن الخطاب فى جاهليته ؟ لقد صحب فى سفره الها من عجوة ، فلما اشتد عليه الجوع لم يتورع عن أكله ّ! وما اساف ونائلة كما يقول الكلبى فى كتابه الأصنام ، الا رجل وامرأة زنيا فى الكعبة فمسخا حجرين ، ليعبدهما اهل مكة ومن يأتيها للتجارة أو الحج ّ!
انها خدعة تاريخية كبرى ّ!
الأمر كله كان مرتبطا بالقوى الكبرى التى يعمل ملوك مكة التجار لصالحها . فالاسلام لو اكتفى بازالة الأصنام لساعدوه فى ازالتها ّ!
لكنه كان يريد أن يجعل أبا سفيا ن وعبيده على قدم المساواة ، كان يريد للعرب القيادة والريادة فى عالم لا يبعترف بهم ويطلق عليهم الحفاة الرعاة ّ!
كان كبراء مكة المرتبطون بمعاهدات ومهام سرية ، يقاومون لمصلحة النظم الدولية المرتعشة من فكرة الثورة ومن فكرة المساواة .
فلو تحقق مبدأ واحد من مبادئ الاسلام وهو تحرير العبيد ، فان الحيوش الكبرى والمزارع والسفن والطرق التى تنشأ بالسخرة والقمع ، ستتعطل وتصاب بالشلل .
انها حضارات قامت على الظلم ، ويزعجها العدل الى درجة الذعر.
على الجانب الآخر كانت السماء قد قررت سحب البساط من تلك الحضارات الفاشلة ، واختارت محمدا صلى الله عليه وسلم ليؤسس عصرا جديدا من الحرية والمساواة والعدل الاجتماعى .

من مظاهر عبقرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبوله هداية قريش كبداية لرسالته ّ! ومهما جنح بنا الخيال فلن نستطيع ادراك غرور وصلف وتكبر زعماء مكة فى هذا الوقت ّ! ماذا نتوقع من رجال مثل أبى سفيان بن حرب صديق كسرى ، وعمرو بن العاص ، صديق النجاشى ، وأبى جهل صديق هرقل ؟
انهم أصحاب تجارة عابرة للقارات يرى كل منهم نفسه ملكا متوجا ، ولذا لم تخضع مكة لملك و بها آلاف الملوك ، فضلا عن ارتباطهم بتلك الدول الكبرى ، وقيامهم بالعمالة والتجسس لصالحها ّ! كيف يطيق اليتيم الفقير الوحيد هذه الأمواج الهادرة ؟
ان أى عاقل تعرض عليه مثل تلك المهمة المستحيلة ،سيرفضها بلا تردد ّ! لكنه قبلها ّ! ومارسها منذ اللحظة الأولى .
كانت الدولتان المتحكمتان فى العالم ، تتحاشيان أى ثورات على حدودهما ، فربما تجاوزت احداها تلك التخوم ووجدت لها صدى فى الداخل ، لا سيما أن صيحات الظلم أصبحت تتردد على استحياء ، لا ينقصها الا نفخات يسيرة ليندلع اللهيب من تحت الرماد .
كان عظماء قريش يحرسون مناطقهم لصالح تلك الدول ، ويبلغونها فورا عن أى قلاقل ويتزودون منها بالأوامر الخاصة للتعامل معها ّ!
لم تنس الامبراطورية الرومانية بعد ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس ، وذلك رغم قمعها بكل قسوة . ليس لديهم استعداد لثورات جديدة تقطع الطرق وتعطل التجارة وتزيد من جرأة الضعفاء والصعاليك . وكانت الأوامر الصادرة الى العملاء هى اختواء الحركة فى مهدها ! قهم لا يغامرون بالحرب فى تضاريس شبه الجزيرة ، خاصة بعد تجربة أبرهة الحبشى . ليجربوا طريقة الاغراء ، فالمال والمناصب تغير أعتى الرجال . عرضوا عليه ما أمروا به ، وكانوا على استعداد لتبنى بعض مطالبه كصمام أمن ، يؤجل انفجار الجائعين . لكنه رفض بكل عزة ، وأوضح لهم سوء تقديرهم وخطأ حساباتهم . فليس محمد بمغامر أفاق يطلب مغنما له ولأسرته !
كان النبى العبقرى يدرك التقاء مصالح ملوك مكة مع مصالح القوى الكبرى ، لكنه اختار التصدى والمجابهة وحيدا ، الا من عزيمته وقدرته وتأييد ربه ّ!
ولازال للحديث عن عبقرية محمد بقية وصلى الله عليه وعلى اله واصحابه وسلم