الحقيقة الغائبة في بردية سنوحى
صفحة 1 من اصل 1
الحقيقة الغائبة في بردية سنوحى
ظلت قصة سنوحي المكتوبة على بردية ، في أوائل عصر الأسرة الثانية عشرة ، تدرس في المدارس المصرية نحو خمسمائة عام .
وترجع شهرتها إلى الغموض الكثيف الذي شاب حوادثها ، وكذلك روح التناقض الشديد بين أجزائها .
سنوحي باللغة المصرية القديمة ، معناه ابن شجرة الجميز ، وهي شجرة مقدسة لدى الفراعنة .
كانت مصر تنعم بالاستقرار، تحت حكم أمنمحات الأول، الذي نقل العاصمة من طيبة إلى ( أثيت تاو ) وسط البلاد . وفي خطوة مفاجئة، عدل ولاية العهد من ابنه الأكبر آني ، إلى سنوسرت ، الحازم القادر على القيادة .
ورغم أن سنوحى كان طبيبا ، ضمن حاشية سنوسرت ، إلا أن قلبه كان مع آني ، وزوجته الليبية ( نورا ) .
تنقلب الأمور رأسا على عقب في لحظات ، ويغتال أمنمحات ، في مؤامرة محكمة ، ويهرع سنوسرت من ميدان القتال ، ليقبض على زمام الأمور ، ويحاكم المتآمرين . هنا يهرب سنوحى من المشهد كله ، ويتنكر ، متنقلا من بلد إلى آخر ، حتى يصل إلى بلاد الشام !
هل كان مشتركا في جريمة قتل الملك ؟
أم أنه خشي من علاقته بآني ، وظن أنه سيكون موضعا للشبهة ؟
لم يحسم المؤرخون الأمر ، رغم كثرة ما كتب عن سنوحي !
ولندع الرجل نفسه ، يقص علينا ، كيف تلقى الخبر المفجع ، فنقرأ سطورا من برديته :
(لقد كنت واقفا على بعد قريب جداً حين أقبل الرسول، فسمعت صوته، وهو يبلغهم الرسالة، فإذا قلبي يضرب، وذراعاي تتراخيان، والفزع يدبّ في أعضائي جميعها، وما لبثت أن عدوت موليّاً وجهي شطر الجنوب أنشد الفرار، إذ قدّرت أن فتنة سوف تقع في مصر وأنني لن أطمح في أن أعيش بعدها) .
يتقلب في بلاد الشام ، وتمضى البردية ، في سرد مغامراته حتى يصل إلى حاكم ( رانو ) أي سوريا العليا، وفيها يقربه، ويطمئنه :
( ستكون معي ، وتسمع أخبار مصر ) . ويحاول الحاكم ، بفطرته السياسية ، أن يكتشف سبب هروبه ، لكن سنوحى يلوذ دائما بالغموض ، حتى صار علامة عليه في التاريخ الفرعوني ، ويقول بعبارات غريبة ، لا تشبع الفضول :
( ومع ذلك لم يبصق أحد في وجهي ، ولا تلقيت عبارة ملام ، ولا سمع اسمي مقترنا بأي اتهام ، وما أدرى ما ساقني إلى تلك البلاد ، لكأنما هو قدر من الله ) .
لا نعرف ، إذا كان هذا الكلام الساذج ، قد انطلى على الرجل المحنك ، أم أنه توجس، فأحاطه بالعيون ، ترقب تحركاته ليلا ونهارا ؟
لكن يبقى السؤال :
لماذا احتضنه الحاكم السوري ، رغم ما يحيط به من ألغاز ؟ هل كان يطمع في تحويله إلى عميل مزدوج ، بلغة العصر الحديث ؟
وهل ما أسبغه عليه من مناصب ونعم ،إلى حد تزويجه ابنته وإسناد قيادة الجيش له كان من أجل سواد عينيه ؟
إن السياسة منذ وجدت ، لا تعرف إلا المصالح ! وما أظنه حرص عليه إلا ليحصل على معلومات ثمينة منه كأحد أفراد الحاشية المقربين !
فيسأله بدهاء عن أحوال مصر :
(وكيف يكون الحال في هذه البلاد ، من بعده ذلك الإله المحسن الذي كان مهابا في كل البلاد ؟ )
بعد أن قضى سنوحى ، سنوات طويلة نما فيها أولاده ، وارتفع صيته كقائد عسكري ، نقل خبرته إلى الجيش السوري ، نجد شوقه لمصر يستيقظ فجأة !
هل كان ذلك بإيعاز من الملك ، بعد أن حصل منه على كل معارفه وعلومه ، وجد من المفيد ، زرعه في بلاده مرة أخرى ؟
لا أحد يدرى ، حتى الأستاذ جاردنر الأثري الذي ترجم القصة ، لم يشر إلى هذا الأمر ! وعلق على رغبته في العودة ، بحاجته إلى أن يدفن في تراب وطنه ، وتقام له الطقوس المعهودة في الدفن .
بدأ سنوحى يرسل الاسترحامات ، لسنوسرت :
(آه ليت ملك مصر يرحمني حتى أحيا برحمته ، وليتني أسأل سيدة الأرض التي في القصر عن إرادتها ، وليتني أسمع أوامر أولادها ).
وكما أحاط الضباب ببداية القصة ، فانه يحيط بنهايتها ،إذ أصدر الملك
عفوا فوريا عنه :
( إن هذا الفرار قد ملك عليك قلبك أنت ، ولم يكن في قلبي شئ ضدك ، تعال ثانية إلى مصر لترى مقر الملك الذي تموت فيه ، وتقبل الأرض عند البابين العظيمين ، وتنال نصيبك بين رجال القصر . )
بتلك الخاتمة السعيدة تنتهي بردية سنوحى ، لكن حقيقته لا زالت غائبة :
هل كان متآمرا ، أم جاسوسا ، أم مريضا نفسيا ، أم ماذا ؟
مقالات الرأي في "اتفرج" تعبر عن موقف كاتبها ومسؤوليتها تقع عليه، ولا تنطق باسم الموقع وسياسته التحريرية.
رابط المقال :
http://www.itfarrag.com/Articles/Details/15838#.VI70g2vK1EE.facebook
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى