ذكريات منية المرشد الجميلة
صفحة 1 من اصل 1
ذكريات منية المرشد الجميلة
من ذكريات منية المرشد الجميلة ، قدوم زوار سيدى محمد المرشدى قطب القرية ، لزيارة ضريحه من بلاد مختلفة ، قريبة وبعيدة : شباس الشهداء ، صيفر البلد ، صيفر البرية ، جماجمون ، كفر ابراهيم ، اريمون . كنا نسمع من هؤلاء القادمين أسماء بلادهم ، التى لم نرها ، ولا نعرف مواقعها . نتعجب ، لماذا يأتون ويتحملون المشقة ، فى القطارات والسيارات والمراكب وعلى ظهور الحمير؟
نحن جيران المرشدى لا نكاد ندخل ضريحة ، يردون علينا باجابات عجيبة ، لم تكن تقنعنا ، بقدر ما تدهشنا ، امرأة ارتفعت درجة حرارة ابنها الوحيد واشرف على الهلاك ، دون ان يفلح الطب فى علاجه ، فنذرت أن تزور المرشدى فى موسم الزيارة الذى يبدأ عقب شتل الأرز ، وانتهاء العمل فى الحقول ، وتؤكد المرأة الطيبة أن الولد شفى ، فجاءت توفى نذرها! ورجل ضاع منه مبلغ فى السوق ، فجاءه المرشدى مناما ، وقال له ستجد المال وتزورنى ، وفعلا يجد ضالته عند أحد الأمناء الذى وجده ملقى تحت الأقدام. العجيب أن الأعداد كانت بالآلاف ، وكانوا ينامون فى الشوارع ، وتقام سرادقات الغناء والذكر . تعيش منية المرشد ثلاثة أيام كأنها أعياد ، ونشأ ت علاقات وطيدة بين الاهالى والضيوف . لم تكن ثمة هواتف يتواصلون من خلالها ، فكان الشوق ينمو ويترعرع خلال العام ، ثم يهلون ، فتتلقاهم الأحضان ، ويلتئم الجميع مرة أخرى فى جسد واحد ، بقلب كبير واحد ، ينبض بالمحبة . رأيت أعينا تفيض بالدمع ، وحلوقا تغص باليكاء ، لأن أحد الأحبة غاب عن موعده ، وعرفوا ان الموت منعه من القدوم . ظل الزوار علامة من علامات الزمن ، ننتظرهم بشغف ، وتمتلئ الشوارع بروائحهم ، وأطعمتهم ، وملابسهم ولغتهم المميزة . لكن الشيطان كره هذا الموسم من العشق ، ونفخ ضيقا فى الصدور ، فاشتعلت معركة لسبب تافه ، مات فيها أحد الغرباء . هكذا اصطبغ الطقس بالدم ، وغشيته الكآبة ، وتقلص الحضور ، فأصبح شراذم من هنا وهناك ، تأتى وتغادر بسرعة فى نفس اليوم . ظهرت الجماعات الاسلامية فى بداية السبعينات ، وركز رجالها على تحريم زيارة الأضرحة ، لأنها شرك ، وبدأ الطلاب المنضمون اليها يمنعون اهلهم من القدوم ، فاختفوا تماما ، ولم نعد نرى المهرجان السنوى الذى كان يمثل رواجا تجاريا وكرنفالا شعبيا ، وسبحان من له الدوام . مساء الخير عليكم جميعا
نحن جيران المرشدى لا نكاد ندخل ضريحة ، يردون علينا باجابات عجيبة ، لم تكن تقنعنا ، بقدر ما تدهشنا ، امرأة ارتفعت درجة حرارة ابنها الوحيد واشرف على الهلاك ، دون ان يفلح الطب فى علاجه ، فنذرت أن تزور المرشدى فى موسم الزيارة الذى يبدأ عقب شتل الأرز ، وانتهاء العمل فى الحقول ، وتؤكد المرأة الطيبة أن الولد شفى ، فجاءت توفى نذرها! ورجل ضاع منه مبلغ فى السوق ، فجاءه المرشدى مناما ، وقال له ستجد المال وتزورنى ، وفعلا يجد ضالته عند أحد الأمناء الذى وجده ملقى تحت الأقدام. العجيب أن الأعداد كانت بالآلاف ، وكانوا ينامون فى الشوارع ، وتقام سرادقات الغناء والذكر . تعيش منية المرشد ثلاثة أيام كأنها أعياد ، ونشأ ت علاقات وطيدة بين الاهالى والضيوف . لم تكن ثمة هواتف يتواصلون من خلالها ، فكان الشوق ينمو ويترعرع خلال العام ، ثم يهلون ، فتتلقاهم الأحضان ، ويلتئم الجميع مرة أخرى فى جسد واحد ، بقلب كبير واحد ، ينبض بالمحبة . رأيت أعينا تفيض بالدمع ، وحلوقا تغص باليكاء ، لأن أحد الأحبة غاب عن موعده ، وعرفوا ان الموت منعه من القدوم . ظل الزوار علامة من علامات الزمن ، ننتظرهم بشغف ، وتمتلئ الشوارع بروائحهم ، وأطعمتهم ، وملابسهم ولغتهم المميزة . لكن الشيطان كره هذا الموسم من العشق ، ونفخ ضيقا فى الصدور ، فاشتعلت معركة لسبب تافه ، مات فيها أحد الغرباء . هكذا اصطبغ الطقس بالدم ، وغشيته الكآبة ، وتقلص الحضور ، فأصبح شراذم من هنا وهناك ، تأتى وتغادر بسرعة فى نفس اليوم . ظهرت الجماعات الاسلامية فى بداية السبعينات ، وركز رجالها على تحريم زيارة الأضرحة ، لأنها شرك ، وبدأ الطلاب المنضمون اليها يمنعون اهلهم من القدوم ، فاختفوا تماما ، ولم نعد نرى المهرجان السنوى الذى كان يمثل رواجا تجاريا وكرنفالا شعبيا ، وسبحان من له الدوام . مساء الخير عليكم جميعا
رد: ذكريات منية المرشد الجميلة
فى زمن الصبا الجميل الهادئ ، كنت أرى فى المحلات والمقاهى والبيوت ، لوحات صغيرة من الحكم والأحاديث والشعر ، مكتوبة بخط رائع . حفظت معظمها وتعلمت منه الكثير ، لأنه كان يعبر عن خلاصة التجربة الانسانية فى هذا الوقت وعن الروح الدينية والأخلاقية السارية فى كل شئ . من العبارات التى لا زلت أحفظها : سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبرى ، وأصبر حتى يحكم الله فى أمرى ، وأصبر حتى يعرف الصبر ، أننى أصبر على شئ أمر من الصبر ! أيضا كانت احدى اللوحات تقول : العلم يبنى بيوتا لا عماد لها ، والجهل يهدم بيوت العز والشرف ، منها كذلك : شكوت الى وكيع سوء حفظى فأرشدنى الى ترك المعاصى ، وأخبرنى بأن العالم نور ونور الله لا يهدى لعاصى . أذكر أيضا : دع الأيام تفعل ما تشاء ، وطب نفسا اذا حكم القضاء ، ولا تجزع لحادثة الليالى ، فليس لحوادث الدنيا بقاء ، ومثلها : ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعا ، وعند الله منها المخرج ، ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت ، وكنت أظنها لا تفرج ! وأخيرا : اذا دعتك قدرتك على ظلم الناس ، فتذكر قدرة الله عليك ، رأس الحكمة مخافة الله . ولا زلت أتخيل أماكن كل لوحة ، ولونها ، والمشاعر التى كانت تحركها فى داخلى . تحضرنى طرفة متعلقة باللوحات والخط ، حيث أحضر المرحوم الحاج محمد المكى خطاطا من رشيد ، ضمن تجديدات المحل ، فزينه بكتابات من خط الثلث ، وتفنن الرجل فى تعشيق الحروف وتدويرها ، بحيث عجزت عن قراءتها فى سن مبكرة ، أيام الدراسة الابتدائية ، ولاحظ الحاج محمد انشغالى أثناء الحلاقة بالتحديق فى اللوحات الحائطية العسيرة . ابتسم بحنان وقال لى مطمئنا :
- ان بعض طلاب الثانوى لا يمكنهم قراءتها .
ثم فسر لى عجائب الحروف المتداخلة فاذا احدى اللوحات : هذا من قضل ربى ، والثانية : انا فتحنا لك فتحا مبينا ، والثالثة التى تشغل نصف الحائط : الخط يبقى سنينا بعد كاتبه ، وكاتب الخط تحت التراب مدفون ، ثم توقيع الخطاط الماهر : سعيد بمدينة رشيد . وعن عجائب الكلمات التى كانت تتخذ تسلية قبل التلفاز ، تلك التى تقرأ من اولها مثلما تقرأ من آخرها : كشك ، وكانت هناك جمل كاملة تقرأ من الأمام والخلف : قلع مركب ببكر معلق . وقد تحدانى جدى رحمه الله ان اكتب : اللؤلؤ يتلأ لأ . وكتب لى أحد زملائى : حتتتتوه . وتفسيرها حتت أى مناطق ، تتوه ، اى يتوه فيها الانسان ، رحم الله أيام البراءة والثقافة البسيطة العميقة ، والبشر الذين كانوا يبدعون لله وللوطن ، دون من ولا أذى . مع تحياتى
- ان بعض طلاب الثانوى لا يمكنهم قراءتها .
ثم فسر لى عجائب الحروف المتداخلة فاذا احدى اللوحات : هذا من قضل ربى ، والثانية : انا فتحنا لك فتحا مبينا ، والثالثة التى تشغل نصف الحائط : الخط يبقى سنينا بعد كاتبه ، وكاتب الخط تحت التراب مدفون ، ثم توقيع الخطاط الماهر : سعيد بمدينة رشيد . وعن عجائب الكلمات التى كانت تتخذ تسلية قبل التلفاز ، تلك التى تقرأ من اولها مثلما تقرأ من آخرها : كشك ، وكانت هناك جمل كاملة تقرأ من الأمام والخلف : قلع مركب ببكر معلق . وقد تحدانى جدى رحمه الله ان اكتب : اللؤلؤ يتلأ لأ . وكتب لى أحد زملائى : حتتتتوه . وتفسيرها حتت أى مناطق ، تتوه ، اى يتوه فيها الانسان ، رحم الله أيام البراءة والثقافة البسيطة العميقة ، والبشر الذين كانوا يبدعون لله وللوطن ، دون من ولا أذى . مع تحياتى
رد: ذكريات منية المرشد الجميلة
ان فى قريتنا كتاب فى الستينات ، بمسجد سيدى جابر . وكان ا لمرحوم الشيخ عبد المنعم سلام ، يقوم بتحفيظنا . نحمل فى الصباح جزء عم ولوح اردواز ، ونذهب ، فتهب علينا رائحة من العطر والبهارات والعرق ، وترتفع أصواتنا مرددة قصار السور ، حتى آذان الظهر ، فنحرج للغداء . حفظت عم وتبارك وبدأت فى جزء قد سمع ، لكننى ضقت بالكتاب ، لأن بعض الغلمان الكبا ر ، وجدوتى صغيرا ، ضعيفا ، فجعلوا تسليتهم ضربى ، وصرت أعود بأنفى نازفا وخدى ممزقا ، فمنعتنى أمى من الذهاب ! وكدت أنسى ما حفظته ، حتى ذهبت أحضر التموين لجدتى ، وكلن تاجر التموين هو نفسه الشيخ عيد المنعم . ما ان رآنى حتى قال لى مندهشا :
- تترك الكتاب و أنت أشطر واحد فيه ؟
صدم قوله عقلى ، وشعرت أنى أضعت فرصة ثمينة ، واننى كنت متفوقا ، حيث لم يسبق لأحد أن أخبرنى بذلك !
عدت فى الصباح الى الجزء واللوح ، لكننى فى هذه المرة ، كنت حريصا ، فما ان يحاول أحد الكبار ضربى ، حتى أصبح و أجرى الى الشيخ ، فيحضره ، ويجعل العامل يمسكه ، ثم ينهال على قدميه ، حتى يشق صراخه أجواز الفضاء . استرحت من الحماقات ، وشعرت بالفخر الشديد حين بدأت فى سورة البقرة .
- تترك الكتاب و أنت أشطر واحد فيه ؟
صدم قوله عقلى ، وشعرت أنى أضعت فرصة ثمينة ، واننى كنت متفوقا ، حيث لم يسبق لأحد أن أخبرنى بذلك !
عدت فى الصباح الى الجزء واللوح ، لكننى فى هذه المرة ، كنت حريصا ، فما ان يحاول أحد الكبار ضربى ، حتى أصبح و أجرى الى الشيخ ، فيحضره ، ويجعل العامل يمسكه ، ثم ينهال على قدميه ، حتى يشق صراخه أجواز الفضاء . استرحت من الحماقات ، وشعرت بالفخر الشديد حين بدأت فى سورة البقرة .
رد: ذكريات منية المرشد الجميلة
كلما ذهبت للتوجيه فى معهد قرية العظمة ، أحرص على الجلوس مع عامل ، يفيض حكمة وروعة ، كأنه قضى عمره يدرس فى أعلى الجامعات ! انه الحاج محمد بدر . فى اللقاء الأخير منذ أيام ، ابتسم حين رآنى ، وقال : جهزت لك حكاية ستعجبك . ثم بدأ يحكى :
تفابل رجلان ، فسأل أحدهما الآخر : كم سنك ؟
فأجابه : اننى أتمتع بصحة جيدة .
عاد يسأله :
- هل لديك رصيد معقول من المال ؟
فأجابه :
- لست مدينا لأحد !
أما السؤال الثالث والأخير ، فكان :
- هل لك أعداء؟
قال له :
- ليس لى أقارب .
بدأ عم محمد يشرح كل سؤال وجواب ، بحماسة وتدفق ، وكانت جلسة طيبة ، مثمرة ، مثل كل جلساته .
تحية للرجل المحترم شيخ العرب ، ولكل العاملين فى معهد الغظمة .
تفابل رجلان ، فسأل أحدهما الآخر : كم سنك ؟
فأجابه : اننى أتمتع بصحة جيدة .
عاد يسأله :
- هل لديك رصيد معقول من المال ؟
فأجابه :
- لست مدينا لأحد !
أما السؤال الثالث والأخير ، فكان :
- هل لك أعداء؟
قال له :
- ليس لى أقارب .
بدأ عم محمد يشرح كل سؤال وجواب ، بحماسة وتدفق ، وكانت جلسة طيبة ، مثمرة ، مثل كل جلساته .
تحية للرجل المحترم شيخ العرب ، ولكل العاملين فى معهد الغظمة .
رد: ذكريات منية المرشد الجميلة
كان الحزن فى منية المرشد فى الستينات ـ عنيفا ، مفزعا . وهيمنت طقوس الموت المقبضة على كل شئ فى القرية . لم يكن ثمة مكبرات للصوت تذيع أنباء الوفاة ، النساء يقمن بالدوران حول البلدة ، نائحات ، وملطخات الوجه ، كاعلان عن موت رجل أو امرأة . لم يكن يمضى يوم دون ان نستيقظ على الصراخ والنحيب ، الذى يستمر أياما طويلة . تبدأ مراسم التجهيز بالغسل والتكفين ، قيما يتطوع البعض بتزيين النعش الخشبى الملقى فى المسجد ، فتخشى الاقتراب منه ! اذا كان الميت رجلا ، يوضع طربوش على رقبة النعش ، أما الأثثى ، فتوضع لها مدورة أو ايشارب . وكان للنعش أغطية خضراء وبيضاء ، يتبرع بها القادرون ! فى أثناء الجنازة ، ترى شخصا أو أكثر منهارين ، يسندهم المعزون ، ترتفع الصرخات المشحونة بالألم والحسرة :
- رابح فين يا غالى وسايبنا .
- سلم لى على أبويا يا فلان .
هذا فضلا عن صيحات النساء التقليدية التى تخلع القلب من مكانه !
يتوقف نشاط الحى الخاص بالميت تماما ، فلا طبيخ ولا غسيل ولا ضحك ولا لغط ، حتى الكتاكيت لا يجوز اطلاقها أمام الأبواب ! تبقى النسوة غاطسات فى السواد شهورا ، ومن تخلعه ، تعد مارقة وتصنف ضمن الأعداء الشامتين ! الرجال يجلسون فى المأتم ، وهو قسم فى منزل آل عطا الله ، وهبوه للعزاء . كان بالقرية مقرآن للقرآن الكريم ، لكل منهما زبائنه , فى وقت الغداء ، تأتى الصوانى من جميع المنازل . فى اليوم التالى ولمدة اسبوع ، تفتح المنادر لمن تخلف !
يوم الخميس ، تمتلئ المقابر بالزائرات الباكيات الشاكيات ، وتسرد سير الراحلين ، وفداحة فقدهم ! تعمر المقابر أيضا فى الاعياد والمواسم ، الى حد أن الصيادين كانوا يقيمون لنسائهم سرادقات مسقوفة بأشرعة المراكب ، ليقضين فيها ليلة مع الأحباب ، يحدثوهم ويخففون من همومهن !
الآن صار الحزن رومانسيا ، فالاعلان يتم بمكبر الصوت ، بكلمات حيادية محفوظة ، لا سبيل الى تغييرها ، ولابد أن تنتهى بعبارة : من كان راغبا فليحضر وله من الله الأجر والثواب ، مع ان الأمر لا يحتاج الى بيان ، فلن يحضر الا من يرغب ، لكنها العادة والمحافظة على المألوف . تتم عملية الغسل والتكفين فى صمت تام ، لا تسمع لاغية ، واذا حدث وصاحت امرأة ، أو بكى رجل ، فان أكثر من منطوع يزجره :
- خليك عاقل ، واذكر الله . حرام عليك !
تسير الجنازة فى صمت يقطعه احيانا بعض الهمس ، فالبعض بجدها فرصة لمقابلة شريك أو صديق أو مدين ، وتدور مناقشات منخفضة ، قد ترتفع أحيانا ، بلا أى تحفظ !
النعش اصبح من الالوميتال ، وليس له رقبة للطربوش أو الايشارب ، كما اختفت الاغطية الحريرية ، واصبح بعض السلقيين يضع الميت مكشوفا ـ والباقون يغطونه ببطانية ! يسير الجميع حتى المقابر ، لكنها ليست مقابر زمان التى يحفر ساعتين للوصول الى بابها ، لدرجة ان الهابطين مع الحثة لا يكادون يظهرون لنا ! المقابر الآن سطحية ، نرى أبوابها ، كأنها أبواب البيوت ، وغالبا تهب علينا روائح التحلل ، كلما تغير اتجاه الريح ! ينتهى الأمر بالدفن ويصيح كبير الاسره : شكر الله سعيكم ، العزاء قاصر على تشييع الجنازة . ويقف الاقربون حائرين ، قيقول كبيرهم بملل :
- اتفضلوا ، كل واحد يشوف شغله !
ألغيت زيارة الخميس تقريبا ، وكذا المبيت فى الاعياد، واصبح الموت طبيعيا ، تمارس بعده جميع الأعمال ، بل ويختفى لون الحداد بعد اسبوع على الأكثر ، وتفتح التليفزيونات وترتفع الأصوات بكل بساطة ! شاخ الحزن ، ولم تعد له سطوته القديمة ، ولم تعد المقابر أماكن للخوف والجن والفزع ، فقد زحفت البيوت حولها وامتلأت بالأطفال والكبار ، يجلسون فوقها ، وينشرون الملابس والاغطية ، وفى الليل تضاء بالكهرباء ، فتبدو حيا من الأحياء ، يموج بالحركة !
- رابح فين يا غالى وسايبنا .
- سلم لى على أبويا يا فلان .
هذا فضلا عن صيحات النساء التقليدية التى تخلع القلب من مكانه !
يتوقف نشاط الحى الخاص بالميت تماما ، فلا طبيخ ولا غسيل ولا ضحك ولا لغط ، حتى الكتاكيت لا يجوز اطلاقها أمام الأبواب ! تبقى النسوة غاطسات فى السواد شهورا ، ومن تخلعه ، تعد مارقة وتصنف ضمن الأعداء الشامتين ! الرجال يجلسون فى المأتم ، وهو قسم فى منزل آل عطا الله ، وهبوه للعزاء . كان بالقرية مقرآن للقرآن الكريم ، لكل منهما زبائنه , فى وقت الغداء ، تأتى الصوانى من جميع المنازل . فى اليوم التالى ولمدة اسبوع ، تفتح المنادر لمن تخلف !
يوم الخميس ، تمتلئ المقابر بالزائرات الباكيات الشاكيات ، وتسرد سير الراحلين ، وفداحة فقدهم ! تعمر المقابر أيضا فى الاعياد والمواسم ، الى حد أن الصيادين كانوا يقيمون لنسائهم سرادقات مسقوفة بأشرعة المراكب ، ليقضين فيها ليلة مع الأحباب ، يحدثوهم ويخففون من همومهن !
الآن صار الحزن رومانسيا ، فالاعلان يتم بمكبر الصوت ، بكلمات حيادية محفوظة ، لا سبيل الى تغييرها ، ولابد أن تنتهى بعبارة : من كان راغبا فليحضر وله من الله الأجر والثواب ، مع ان الأمر لا يحتاج الى بيان ، فلن يحضر الا من يرغب ، لكنها العادة والمحافظة على المألوف . تتم عملية الغسل والتكفين فى صمت تام ، لا تسمع لاغية ، واذا حدث وصاحت امرأة ، أو بكى رجل ، فان أكثر من منطوع يزجره :
- خليك عاقل ، واذكر الله . حرام عليك !
تسير الجنازة فى صمت يقطعه احيانا بعض الهمس ، فالبعض بجدها فرصة لمقابلة شريك أو صديق أو مدين ، وتدور مناقشات منخفضة ، قد ترتفع أحيانا ، بلا أى تحفظ !
النعش اصبح من الالوميتال ، وليس له رقبة للطربوش أو الايشارب ، كما اختفت الاغطية الحريرية ، واصبح بعض السلقيين يضع الميت مكشوفا ـ والباقون يغطونه ببطانية ! يسير الجميع حتى المقابر ، لكنها ليست مقابر زمان التى يحفر ساعتين للوصول الى بابها ، لدرجة ان الهابطين مع الحثة لا يكادون يظهرون لنا ! المقابر الآن سطحية ، نرى أبوابها ، كأنها أبواب البيوت ، وغالبا تهب علينا روائح التحلل ، كلما تغير اتجاه الريح ! ينتهى الأمر بالدفن ويصيح كبير الاسره : شكر الله سعيكم ، العزاء قاصر على تشييع الجنازة . ويقف الاقربون حائرين ، قيقول كبيرهم بملل :
- اتفضلوا ، كل واحد يشوف شغله !
ألغيت زيارة الخميس تقريبا ، وكذا المبيت فى الاعياد، واصبح الموت طبيعيا ، تمارس بعده جميع الأعمال ، بل ويختفى لون الحداد بعد اسبوع على الأكثر ، وتفتح التليفزيونات وترتفع الأصوات بكل بساطة ! شاخ الحزن ، ولم تعد له سطوته القديمة ، ولم تعد المقابر أماكن للخوف والجن والفزع ، فقد زحفت البيوت حولها وامتلأت بالأطفال والكبار ، يجلسون فوقها ، وينشرون الملابس والاغطية ، وفى الليل تضاء بالكهرباء ، فتبدو حيا من الأحياء ، يموج بالحركة !
مواضيع مماثلة
» الأفراح فى منية المرشد خلال الستينات
» مقالى عن مقاهى منية المرشد ودورها الاجتماعى والثقافى بجريدة القاهرة
» سيرة البلاد الجميلة فى رواية العراوى بقلم/سميرالمنزلاوى
» مقالى عن مقاهى منية المرشد ودورها الاجتماعى والثقافى بجريدة القاهرة
» سيرة البلاد الجميلة فى رواية العراوى بقلم/سميرالمنزلاوى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى