عزبة سمير المنزلاوى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

وجه صغير فى نافذة

اذهب الى الأسفل

وجه صغير فى نافذة  Empty وجه صغير فى نافذة

مُساهمة من طرف samir elmanzlawy الإثنين فبراير 08, 2016 2:37 pm

وجه صغير فى نافذة
كنت معتادا – وانا طفل – أن أشب على
قدمي و أضغط وجهي في نافذة حانوت عم فرغلى . تدور عيناي كل صباح في الداخل , كأنني أطمئن أن كل شئ لا زال مبعثرا ! الفوضى المهيمنة على المكان تمنحه رهبة وجدتها حين كبرت، في المتاحف , و غرف حفظ السجلات و محلات الكتب . يكون عم فرغلى وحيدا ساهما يحدق تحت رجليه. غارقا في كرسيه الخشبي ماداذراعيه الطويلتين على المسندين . و ربما أجده مشغولا بالزبائن ، يوقفهم في الركن كالمتهمين , لا يعبأ بسيقانهم المقوسة و نظراتهم التي يحسدونه بها على الأعضاء المستريحة. ينكب على جهاز الراديو الأخرس و تبطئ الحياة دورتها . في كل مرة يشم أنفاسي بعد مدة لا تتغير , و يصيح بصوته الرفيع الذي يشبه صوت طفل يستغيث بأمه : - امش يا ولد العب بعيد!.
أهبط و أبدأ يومي فيما احتفظ بالأحداث القصيرة الممتعة داخل الدكان المحندق و الأرضية المكتظة بالأسلاك الملونة و السماعات والمكثفات , و استرجع الصيحة المضحكة الصادرة من بطن عال محشور في قميص مخطط ، ضائع إلى ثلثيه في قلب بنطال غول.
دخلت الدكان مرة مع أبى . حصرنا في الركن, حدقت في وجهه , كان مستديرا ولامعا , كالفطيرة الطرية. عيناه العسليتان الصغيرتان كعيني الدمية في بطن الجهاز لا تكادان ترمشان..
انهمك يضم الأسلاك . لم يفطن إلى زائره اليومي الذي يزجره , و ظل يلحمها بالمكواة الموضوعة فوق موقد يئز على المنضدة و لا يخبو طول اليوم. ينبعث من الراديو الميت صوت مفاجئ مرتبك ينزع الابتسامة من أبى الذي اطمأن لإمكانية إعادة الحياة إلى رفيقه المغشي عليه منذ أيام..
يعاود الكي بعدما سكت الصوت ثانية , في هذه المرة يسيل هادئا كماء الجدول و يناوله لأبى في ثقة وهو يقول : - ثلاثة جنيهات.
قال أبى وهويضبط المحطة : - غريب طيب جاء بلدنا لأكل العيش
لم أفهم هل أحبه من أجل ذلك ؟ و لم أسأل.
ذات صباح شببت و ضغطت وجهي في النافذة . ثمة شئ أضيف إلى الفو ضى. امرأة تجاهد
لتمسك بأذيال الشباب تجلس على المقعد الخشبي،
لكنها لا تملؤه مثل عم فرغلى , لعلها المرة الأولى التي أرى فيها مساحة خالية في المقعد . ذراعاها لم يكونا فوق المسندين بل تحركتا مع كوعيها في دائرة واسعة و توافقت الحركة مع الكلمات السريعة المتدفقة من فمها. وقفت فرأيت فستانها الأخضر كله ، كان منقوشا بالورود الصفراء الصغيرة.
فوق المنضدة و بجوار الموقد المشتعل وضعت حقيبتها , و بين لحظة و أخرى تمسكها و تفركها بيديها ثم تعيدها و تزيح الموقد حتى أصبحت إحدى رجليه على الحافة . اقترب عم فرغلى و عدل وضعه لكنها بعد لحظة أزاحته فوقف معلق البصر بالرجل التي كادت تنزلق و بدا متأهبا ليلحقها!.
لا يزال في مكان الزبائن يجرب عذابهم و المرأة تحولت من العتاب إلى التهديد ! تقف و تشير بإشارات غامضة فيطلب منها الجلوس و يهمس بكلمات غير مسموعة و يرضيها بابتسامة نادرة لم أعثر عليها طيلة عشرتي له!!
الابتسامة تجرى في فطيرته الطرية مع الإحراج و القلق فتصطبغ يلون الدم . جاء صاحب العصارة بكوب من عصير القصب.
, أزاحني بحافة الصينية كشئ زائد فلم يشعر عم فرغلى بي حتى الآن! تناول الكوب دون نظرة , قدمه لها فارتعش في يدها و ألقى بعضا مما فيه. أخذه منها لكنه لم يجد مكانا خاليا له , بدا متحيرا و ظننت أنه سيلقى به في وجهي’ لكنه تحرك قليلا ووضعه على الأرض وسط النفايات . اهتز الكوب فوق البقعة الحدباء و ألقى أيضا بعضا مما فيه..
صوتها الآن جذب المارة فتطلعوا من فوق رأسي . تخبط الحقيبة و تزحف رجلا الموقد نحو الهاوية و يسرع هو فيعيدها . العصير الذي انسكب نصفه صار أسود و فقد لونه الأخضر. و فطيرة عم فرغلى اختفت معالمها و أصبحت كتلة عجين شائهة! .
كنت فرحا بالموقف و فرحا بانشغاله عنى و فرحا برائحة البرتقال التي تخرج من المرأة و تصدم أنفى و تدخل إلى روحي . أحس بي أخيرا و أطلق الصيحة : -امش يا ولد العب بعيد.
نظرت إلي كأنها اكتشفتني . خفضت صوتها و سوت الفستان و أخذت الحقيبة و رمقت بقايا العصير ثم قالت في حنان : - تعالى ادخل يا حبيبي .
خفت و ظللت معلقا و حائرا ، أخرجت قطعة حلوى و اقتربت . أخذتها و لم أستجب لإشارتها بالدخول و جريت . طول اليوم أتنفس زهر البرتقال و يسرى طعم الحلوى في جسدي . رأيتها في الحلم ، كانت تجلس بجانبي على المقعد ذي المسندين و أخذت منها حلوى كثيرة . في الصباح كان عم فرغلى في مقعده يملؤه تماما , ذراعاه فوق المسندين ، و بطنه المحشو يعلو و يهبط مع أزيز الموقد . بقايا العصير على الأرض لم يزلها ، ورائحة البرتقال تعشش في المكان . رآني على الفور ، سأستعد للانزلاق و الجري . هه سيصيح : _ امش يا ولد العب بعيد . لكنه ابتسم لي مثل ابتسامة الأ مس ، و بدأ الدم يغزو الوجه والرقبة. رفع عينيه و قال فجأة : - تعالى يا حبيبي ادخل!
.
كان صوته هادئا و مملوءا , و خاليا من الاهتزازات المضحكة ، و مع ذلك تركت قدمي يهبطان ، أطلقت ساقي للريح , و لم أعد مرة أخرى.

samir elmanzlawy
Admin

المساهمات : 181
تاريخ التسجيل : 07/02/2016

https://samirelmanzlawy.forumegypt.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى